إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / غزوة الخندق





معركة الخندق




مقدمة

أولاً: الطرفان المتصارعان وسير الأحداث

1. استعداد المشركين واليهود

بعد أن تمكن اليهود من إقناع مشركي قريش بحرب الرسول r، اتجهوا نحو غطفان وغيرها من قبائل العرب، ودعوهم أيضاً إلى قتال الرسول r، وأخبروهم أن قريشاً معهم على ذلك. فوافقت غَطَفَان والقبائل الأخرى.

توجهت جموع الأحزاب نحو المدينة المنورة، ونزلت قريش بمجتمع الأسيال من بئر دُوَمه، بين الجُرْفِ وزَغَابة ومعهم جمع من كِنانة وأهل تُهامة. وأقبلت غَطَفَان ومن يتبعهم من أهل نَجْد حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمي إلى جانب واحدٍ، حيث عسكر هؤلاء شمال المدينة بين السفوح الجنوبية لجبل أُحُد والخندق، الذي حفره المسلمون دفاعاً عن المدينة المنورة (اُنظر شكل معركة الخندق).

وقد أورد ابن هشام خبرهم قائلاً: "فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر، في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حَارِثة المريّ في بني مُرّة، ومسعر بن رُخَيلة... فيمن تبعه من قومه من أشجع".

وبعد احتشاد جموع الأحزاب، انطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة، فدنا من حصنهم الواقع شرقي المدينة جنوب وادي مهزوز في العوالي. فأبى زعيمهم، كعب بن أسد القرظي، أن يفتح له، فلم يزل يكلمه حتى فتح له. فلما دخل عليه قال: "لقد جئتك بعز الدهر وببحر طام (أي عدد كبير من المقاتلين)، جئتك بقريش وغَطَفَان وأَسَد على قادتها لحرب محمد".

قال كعب: "جئتني والله بذل الدهر وبجهام (أي بسحاب رقيق لا ماء فيه) قد أراق ماءه، فهو يرعد ويبرق".

فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين الرسول r، ودخل مع المشركين في محاربة الرسول r، فسرّ بذلك المشركون، وشرط كعب على "حييّ" إنْ لم يظفروا بمحمد، فعلى حيي أن يدخل مع بني قريظة حصنهم فيصيبه الذي يصيبهم.

2. استعداد المسلمين

نجح المسلمون في إعادة تنظيم صفوفهم بعد معركة أحد، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة. فارتفعت روحهم المعنوية وقوي مركزهم وسلطانهم، داخل المدينة وخارجها.

ولمّا سمع الرسول r، بتجمع الأحزاب لقتال المسلمين، وعزمهم على استئصال شأفتهم، واستعدادهم للخروج عليهم، ندب الناس ودعاهم للخروج، وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في الأمر. وكان الرسول، r يستشير أصحابه في كل أموره. قال أبو هريرة t: ]مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [r (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1636).

استشار الرسول r، أصحابه حيال هذا الموقف القتالي الصعب، الذي جمع قبائل العرب ووحّدهم ضد المسلمين. فأشار عليه الصحابي، سلمان الفارسي، بحفر خندق للدفاع عن المدينة، يحول بين العدو وبينها. ولم يكن حفر الخنادق، للأغراض الدفاعية، معروفاً عند العرب من قبل. قال سلمان: "يا رسول الله، إنّا كنّا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل، خندقنا علينا".

أخذ الرسول r بما أشار به سلمان الفارسي، وبادر المسلمون بحفر الخندق، وعمل الرسول بيديه الطاهرتين، في حفره، مع أصحابه.

3. قوات الطرفين

أ. المسلمون

بلغ عدد المقاتلين من المسلمين ثلاثة آلاف رجل، بقيادة الرسول r.

ب. المشركون

كانت قوة المشركين عشرة آلاف ـ عدا اليهود من بني قريظة ـ أربعة آلاف من قريش، وستة آلاف من القبائل الأخرى. يقول الواقدي، صاحب كتاب المغازي: "وكان القوم جميعاً الذين وافوا الخندق من قريش، وسُلَيم، وغَطَفَان، وأَسد، عشرة آلاف، فهي عساكر ثلاثة، وعناج الأمر (أي رئاسته) لأبي سفيان".

ويبين الجدول أدناه عدد قوات المشركين، وأسماء قادتها في هذه الموقعة:

القادة

القبائل

مسلسل

أبو سفيان بن حرب بن أمية

قريــش

1

عيينة بن حصن، والحارث بن عوف

غطفـان

2

مسعود بن رخيلة

أشجع

3

سفيان بن عبد شمس، حليف حرب بن أمية

سليم

4

طلحة بن خويلد الأسدي

بنو أسد

5

4. أهداف الطرفين

أ. المسلمون: كان هدفهم حماية المدينة المنورة، والدفاع عن الإسلام.

ب. أمّا المشركون واليهود: فكان هدفهم اقتحام المدينة المنورة، والقضاء على الرسول ومن آمن معه.

5. سيّر الأحداث

أ. موقع الخندق (اُنظر شكل معركة الخندق)

حفر المسلمون الخندق في السهل الواقع شمال غرب المدينة المنورة، وهو الجانب المكشوف، الذي يُخاف منه اقتحام العدو. وقد تم حفره من شمال شرق المدينة إلى غربها، وكان حده الشرقي حَرْف (حرة واقم)[1]، وحده الغربي وادي بطحان حيث طرف الحرة الغربية (حرة الوَبَرة).

وقد ورد في كتاب مغازي الواقدي (محمد بن عمر بن واقد) قوله: "وكان الخندق ما بين جبل بني عبيد بخربي، إلى راتِج، فكان للمهاجرين من ذباب إلى راتِج، وكان للأنصار ما بين ذباب إلى خربي، فهذا هو الذي حفره رسول الله r والمسلمون، وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، وهي كالحصن، وخندقت بنو عبدالأشهل على نفسها مما يلي راتِج إلى خلفها حتى جاء الخندق من وراء المسجد، وخندقت بنو دينار من عند خربي إلى موضع دار ابن أُبٌيّ، ورفع المسلمون النساء والصبيان إلى الآطام[2]".

وفي سيرة ابن هشام: "وأمر بالذراري (أي الصغار دون البلوغ) والنساء فجعلوا في الآطام".

وقد حكم تخطيط الخندق على هذا النحو عدة عوامل لها اعتبارها من الناحية العسكرية، منها ما يلي:

(1) طبيعة الأرض من ثلاث جهات:

(أ) من الشرق حرة واقم.

(ب) من الغرب حرة وبرة.

(ج) من الجنوب جبل سلع.

(2) إضافة إلى ذلك، كانت آطام بني قريظة من جهة الجنوب تكمل نطاق الأمن، إلاّ إذا غدروا بعهدهم، وشايعوا أعداء المسلمين.

(3) اكتمل تحصين بقية أجزاء المدينة بسد الفرج بين البيوت، حتى أصبحت كالحصن.

ب. حفر الخندق وتنظيمه الهندسي

قرر المسلمون البقاء في المدينة، وحفر الخندق بعد أن أمرهم الرسول r بذلك. وكان غرضهم الأساسي من حفره، منع خيل المشركين من اقتحام المدينة. لذا، كان يجب حفر الخندق بطريقة هندسية لا تسمح للخيل العربية ـ المعروفة بمهارتها في اجتياز الحواجز والعقبات ـ من اجتياز الخندق، أي يكون عرض الخندق وعمقه بالقدر الذي يحول دون اجتياز الخيل له.

وقد تم، فعلاً، حفر الخندق بطريقة حالت دون تمكن خيل المشركين من اقتحامه، بحيث صارت جيوشهم تطوف بالخندق بحثاً عن مكان يضيق فيه ليعبروا، وحتى عند محاولتهم العبور من المكان الضيق لم يكن الأمر سهلاً، بل اضطروا لإجبار خيلهم بالقوة حتى تعبر.

وقد ورد في أخبار غزوة الخندق أن المشركين كانوا "يطوفون بالخندق يطلبون مضيقاً، يريدون أن يقحموا خيلهم إلى النبي r فتيمموا مكاناً من الخندق ضيقا قد أغفله المسلمون فجعلوا يكرون خيلهم ويضربونها حتى اقتحمت".

وبعض الذين حاولوا اقتحام الخندق، فشلوا وسقطوا فيه. فقد رُوُي أن رجلاً من آل المغيرة قال: "لأقتلنَّ محمداً، فأوثب فرسه في الخندق فاندقت عنقه".

قسّم الرسول القائد r منطقة الحفر على أصحابه، لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً (ما يعادل 28 م)، وعمل هو بالحفر أيضاً. وقد بلغت أبعاد الخندق، ما يلي:

المسافة بالمتر

المسافة بالذراع

الأبعاد

3500

5 آلاف

الطول

ستة ونصف فما فوق

9 فما فوق

العرض

5 ـ 7

7 ـ 10

العمق

وحتى يُدرك حجم العمل، الذي أداه المسلمون، بقيادة الرسول r، ومقدار الجهود التي بذلوها، فإنه لو قُسِّم طول الخندق الكلي، 3500 م، على عدد أفراد جيش المسلمين، وهو ثلاثة آلاف مقاتل، لكان نصيب الفرد من العمل في الحفر 1.666 م، من الجبهة، لكل رجل واحد.

وقد استخدم المسلمون في حفر الخندق الأدوات المتوفرة لهم، في ذلك العصر، مثل الفؤوس، والمساحي (جمع مسحاة، وهي المجرفة من الحديد)، والمكاتل (جمع مكتل، وهو زنبيل "سلة" من الخوص، لنقل الرمال والأحجار).

وجعل المسلمون يردمون التراب والأحجار الناتجة عن الحفر إلى جانب الخندق من ناحية المدينة، وعلى مسافة مناسبة من حافته بين المتر والنصف والمترين، وذلك لمنع تساقط الرمال داخل الخندق، ولكي يستخدمها المسلمون في رمي المشركين عند الحاجة. وهذا الساتر الذي أقاموه يُعد ضرورياً وحيوياً للدفاع، إذ يحقق الأهداف التالية:.

(1) حماية المسلمين من سهام العدو وحجارته، مع تأمين ظروف أفضل لهم للرمي والحركة. ولتحقيق ذلك يمكن تقدير ارتفاع الساتر أنه كان نحو ثلاثة أذرع، أي حوالي مائة وثمانين سنتيمتراً.

(2)حرية المناورة خلف الساتر بعيداً عن أنظار العدو وسهامه.

(3) تيسير عمليات الإخلاء (إخلاء الجرحى)، وعمليات إمداد القوات بكل مطالبها.

راوحت مدة حفر الخندق بين الستة أيام والشهر، وقد تضاربت الروايات في ذلك. قال محمد بن عمر، وابن سعد: عمل المسلمون في الخندق حتى أحكموه في ستة أيام.

وورد في السيرة الحلبية: "وكان  يعقب فيها بين ثلاثة من نسائه عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، فتكون عائشة عنده أياماً، فيكون مكث في عمل الخندق بضعة عشرة ليلة، وقيل أربعاً وعشرين ليلة، وقيل عشرين ليلة، وقيل قريباً من شهر، وقيل شهراً. قال بعضهم: وكونه قريباً من شهر هو أثبت الأقاويل. وقيل أثبت الأقاويل أنها خمسة عشر تقريباً، وبه جزم النووي ـ يرحمه الله ـ في الروضة".

والأوفق أن تكون المدة حوالي الأسبوعين بالنسبة لحجم العمل، وأدوات الحفر البدائية المتوفرة في ذلك العصر، وطبيعة الأرض الحجرية القاسية التي يجري فيها الحفر. وتتساوى هذه الفترة مع المدة الزمنية التي يستغرقها جيش المشركين للسير من مكة إلى المدينة المنورة في تلك الأيام.

وقد قسم الرسول r، حفر الخندق بين المهاجرين والأنصار. فكان المهاجرون يحفرون من ناحية راتب إلى ذباب، وكان الأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بني عبيد في خربي.

ج. قيادة الرسول r للمسلمين أثناء الحفر

باشر الرسول r العمل بنفسه، بعد أن ضُربت له قبة من أَدَمَ (أي من جلد)، في موقع الحفر. وتولى التخطيط والتنظيم والمتابعة والعمل، وفقاً للآتي:

(1) تقسيم العمل بين المهاجرين والأنصار.

(2) مشاركته الفعلية مع المسلمين. فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ]أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ r بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ، فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ، لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ. قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r، قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ. وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ، مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ. وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ. وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 17946).

(3) كان المسلمون شديدي الانضباط في تنفيذ الأوامر، حتى عند الذهاب لأغراضهم الخاصة. "وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لابد منها، يذكر ذلك لرسول الله r ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمل، رغبة في الخير واحتساباً له. وقد استمر العمل طوال النهار مع الراحة ليلاً.

(4) توجهت مفرزة من المشركين في ليلة من ليالي الحصار نحو منزل رسول الله، (والمقصود بالمنزل مقر القيادة الأمامي)، فقاتلهم المسلمون يوماً بأكمله. فلمّا حانت صلاة العصر دنت الكتيبة فلم يقدر رسول الله ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا العصر على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة (أي رجعت) مع الليل. وصلى الرسول r مع صحبه الصلاة الفائتة صلاة قضاء، بعد توقف الأعمال القتالية من الليل.

(5) لمّا اشتد البلاء بالمسلمين نافق كثير من الناس، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى الرسول r ما حلَّ بالناس من كرب جعل يبشرهم ويقول: ويدعو على الأحزاب قائلاً: ]اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ، وَزَلْزِلْهُمْ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6935). وكان يقول حينما اشتدّ عليهم البلاء في هذا المقام أيضاً: ]لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ، وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، فلا شَيْءَ بَعْدَهُ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 8134).

(6) استشارة الرسول r للسَّعدين في عقد الصلح بينه وبينه غطفان

فكر الرسول r في بعض الأعمال التكتيكية التي قد تمكنه من زعزعة صفوف أعدائه وتفريق كلمتهم. من ذلك سعيه إلى إخراج قبيلة غطفان من المعركة. فقد أراد r أن يصالح غطفان على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عنه وعن أصحابه، وتلك حيلة أراد بها المصطفى r أن يفرق بها بين جماعة الكافرين، وأن يضعف قوتهم ويتفرغ لمن بقي منهم. فاستشار الرسول r السَّعْدين، سعد بن معاذ (سيد الأوس) وسعد بن عبادة (سيد الخزرج)، فقالا له: يا رسول الله: أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيءٌ أصنعه لكم، والله لا أصنع ذلك، إلاّ لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم[3] من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرىٍ[4] أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله مالنا بهذا من حاجة، ولا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله r فأنت وذاك.

(7) درس في الكتمان

بعد أن نكث يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله r، بعث النبي r رجلاً من المسلمين يستطلع خبرهم ليتأكد من انضمامهم إلى الأحزاب، وأمره أن يلحن (أي يستخدم الرمز) حين يعود إليه، ولا يفصح في حالة نكث بني قريظة، خوفاً على معنويات المسلمين من الانهيار، وحتى يكملوا استعداداتهم لمواجهة جيوش الأحزاب.

ولمّا انتهى للرسول، r نبأ نقض بني قريظة لعهدهم معه، لجأ إلى استخدام الدبلوماسية معهم. فبعث وفداً ليستوثق من الخبر، وكان فيه سعد بن عبادة، سيد الخزرج، وسعد بن معاذ، سيد الأوس، ليؤديا مهمة السفارة والتأكد من صحة الخبر.

إنَّ في إرسال الرسول r لهذين السيِّدين في مهمة السفارة، لأوضح دليل على عمل دبلوماسي في أعلى المستويات، لأن هذين المبعوثين من سادة أهل يثرب (المدينة المنورة)، وهما كذلك على معرفة تامة باليهود وطبائعهم لصلة جوارهما بهم، فضلاً عن تمثيلهم لغالبية سكان يثرب الأصليين.

جاهر اليهود وفد الرسول r بالسَّب والعداوة، ونالوا من رسول الله r. ولمّا عاد الوفد، لَحَنَ للرسول r لحناً عرف بمقتضاه أن اليهود نقضوا عهدهم وغدروا، فعظم ذلك على المسلمين. وعندها قال r متفائلاً  ـ على نحو ما أورده ابن هشام في السيرة النبوية: ]ابشروا يا معشر المسلمين. ابشروا بنصر الله وفتحه[.

كان من نتيجة نقض اليهود لعهدهم أن ارتفعت الروح المعنوية للمشركين، وبدأوا في تكثيف جهودهم لاختراق الخندق.

وعند ذلك ظهر موقف المنافقين، الذين بدأت بوادر الفرحة على أساريرهم، فأخذوا يثبطون عزائم المسلمين، حتى قال معتب بن قشير: "كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط".

كما أن فريقاً من المنافقين استأذن رسول الله r في الذهاب إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، وما هي بعورة، (أي مكشوفة تحتاج إلى حماية). وجعل المنافقون يتسللون إلى أهليهم بغير علم النبي r ولا بإذن منه، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ]وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارا[ (سورة الأحزاب: الآيتان 12، 13).

وقد ضاق صدر الرسول r، وصدور المسلمين، وازداد البلاء عليهم، وأحاطت بهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم كما صوّر ذلك القرآن الكريم أبلغ تصوير في قوله تعالى: ]إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا[ (سورة الأحزاب: الآيتان 10، 11).

(8) زعزعة الثقة بين الحلفاء والوقيعة بينهم

جاء رجل من غَطَفَان اسمه "نعيم بن مسعود بن عامر" t إلى رسول الله وكان قد أسلم حديثاً، فقال: "يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي (غَطَفَان) لم يعلموا بإسلامي، فَمُرْني بما شئت، فقال رسول الله r. إنما أنت رجل واحد، فخذّل[5] عنا ما استطعت، فإنّ الحرب خُدعة". فذهب من فوره t لأداء المهمة التي أوكلها له النبي r.

خرج نعيم حتى أتى بني قريظة، وكان نديماً لهم في الجاهلية، فقال: "يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة (فرصة) أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رُهناً (رهائن) من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشاً: فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر، "قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه، نصحاً لكم، فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم، فأرسل إليهم أن نعم.. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رُهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، فقالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

فلمّا كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صُنْعِ الله لرسوله، r أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر (يريد الإبل والخيل) فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ ما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رُهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإننا نخشى إن ضرستكم (نالت منكم) الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا (تسرعوا) إلى بلادكم وتتركونا، والرجال في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك.

فلما رجعتْ إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إنّ الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا لبني قريظة: إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا. وخذل الله بينهم وتفرقت قلوبهم، وزالت الثقة بينهم، ودبّ الخلاف في صفوفهم.



[1] الحرة: الأرض ذات الحجارة النخرة السوداء.

[2] الآطام: هي القصور، ويقال هي الحصون، ومفردها: أطم.

[3] كالبوكم: اشتدوا عليكم.

[4] قرى: الطعام الذي يقدم للضيف.

[5] فرّق عنا جموع القوم.